[color:d4f2=re d] تركيا فى ثوب جديد
التجربة السياسية ذات التوجه الإسلامي بتركيا قدم السبق على مجموعة من التجارب الإسلامية أحرزت في مختلف أقطار عالمنا الإسلامي ، ومرجع ذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بقدم التجربة وحنكتها في إدارة الصراع مع خصومها ، ومنها ما يتعلق بطبيعة الديموقراطية داخل مجتمعها،ومهما يكن من أهمية لهذه العوامل مجتمعة ولغيرها ، فيبقى ثمة عامل آخر هام جدا تمرست عليه التجربة السياسية بدءا من أول حزب وهو حزب النظام الوطني ضمن التوجه القديم إلى تجربة حزب العدالة والتنمية ، ويتعلق الأمر بمستوى إتقان التجربة السياسية للعبة المناورة السياسية مع خصومها سواء بداخل تركيا أو خارجها .
وهذا العامل قلما يتم استيعابه من طرف البعض فتخالهم لا يتوانون في إطلاق بعض الأحكام اتجاه أي تصرف من زعيم من زعماء هذه التجربة السياسية. ولعلنا نكتشف قدرا معتبرا من هذا العامل في تجربة حزب العدالة والتنمية الحالي ، وأهم محددات موقفه حيال مجموعة من القضايا والمعادلات الداخلية والخارجية التي واجهته.
وقبل أن نعرض لهذه المعادلات لا بأس أن نرهف السمع لأصوات عديدة من داخل التيار الإسلامي سواء داخل تركيا أو خارجها حيث اعتبرت هذه الأصوات أن ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية من أغلبية أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية لا يعد " انتصارا " أو هو "انتصار" نسبي في نظرها ، مبررهم هو كون ثمن هذا الانتصار كان كبيرا جدا ، فمقابله "تنازل" زعماء التجربة الجديدة عن أفكار ظلت تحكم ردحا من الزمن مواقفهم من مجموعة من القضايا والملفات،من ذلك قضية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، و قضية الحجاب ، و الأزمة الاقتصادية التي ظلت البلاد تتخبط فيها ، والاستدانة من بعض المؤسسات المالية الدولية ..لكن أخطر قضية تردده في قضية حرب أمريكا على العراق.
طرحت على طاولة الحكومة التركية الجديدة بقيادة حزب العدالة والتنمية معادلات معقدة بمجرد تسلمه مقاليد الحكومة ، فرضت عليه ضرورة النظر في حل تعقيداتها المتشابكة .و يجدر أن نذكر في هذا الصدد أن إرهاصات وجود كثير من هذه المعادلات - وأبرزها معادلة حرب أمريكا على العراق- كانت مطروحة منذ مدة على مسرح الحياة التركية ، واختلفت طريقة تعامل كل حزب معها سواء قبل حملة الانتخابات النيابية ،أو أثناءها أو بعدها.
المعادلات الداخلية :
* موقف الحزب من الأزمة الاقتصادية:
تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكومة في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة ظلت تركيا تعيش في حمأتها منذ عقود ، وأدت الى إقفال وإفلاس عدد لا يقدر من الشركات والمصانع ، وتسببت في حصول تضخم كبير، و انخفضت العملة التركية الى أدنى مستوى لها . أثناء الحملة الانتخابية وقبلها قال زعماء حزب العدالة والتنمية بأن أهم ما سيولونه العناية الأولى هي حل هذه الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد ، ولم يخف زعماء الحزب رغبتهم في التعاون مع صندوق النقد الدولي في سبيل التغلب عليها .
إلا أن شدة الأزمة الاقتصادية وعمقها كان أكبر من قيام الحزب برتوشات إصلاحية ، إلا أنه وبعد انتهاء حرب أمريكا على العراق ،بدأت بوادر انفراج اقتصادي تلوح على الاقتصاد التركي ، قد يكون مؤشرا على بداية خروجه من الأزمة.
* موقف الحزب من قضية منع الحجاب :
تعتبر مشكلة الحجاب واحدة من القضايا الساخنة المطروحة على الساحة التركية منذ حوالي عشرين سنة ، ومع هذا لم تصل حتى هذه اللحظة إلى حل نهائي. وقد تفاقمت هذه المشكلة خلال تجربة حزب الرفاه في حكومة 1997 م ، حيث فرضت عليه المؤسسة العسكرية أن ينصاع لمجموعة من الشروط منها منع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات ، وقد أسقطت هذه الحكومة كما هو معروف على اثر الانقلاب الأبيض الذي قام بها الجيش ، بعدما لم تف بالتزامها .
يعتبر الجيش نفسه الجهة الوحيدة المسؤولة عن الحفاظ على مبادئ أتاتورك وعلى أفكاره العلمانية واللادينية ، ومن هنا فهو يرى أن مجموعة من المظاهر الإسلامية ومنها ارتداء الحجاب داخل المؤسسات التعليمية والجامعية وحتى داخل وزارات الدولة تشكل مساسا "بالمبادئ الكمالية"، ولذلك وجبت محاربتها بلا هوادة .
وكثير من المتتبعين لقضية الحجاب في تركيا يؤكدون أن هذه المشكلة لا تقتصر على فئة محدودة من المجتمع بل تشغل أكثر من 80% من نساء تركيا. وفي خطاب لطيب رجب أردوغان يوم التاسع والعشرين شهر أكتوبر 2002 ، وأمام حشود من أنصار الحزب تجمهرت أمام مقره ذكر أردوغان أنه يوم الرابع من شهر نونبر 2002 ، أي بعد يوم واحد من إعلان نتائج الانتخابات سوف لن يكون هناك شيء اسمه إلقاء القبض على أولياء الأمور، أو وضع الحديد في أيدي الشباب المعارض لمنع المحجبات من التعليم ، و ذكر أيضا: أن حزبه سيرفع كل العوائق الموضوعة أمام حرية التعبير.
بعدمامرت الانتخابات أكد زعماء حزب العدالة والتنمية في تصريحاتهم المتكررة أن هذه القضية أو هذه المعادلة لا تشكل بالنسبة إليهم أولوية في الوقت الراهن ، ولدا فهي مدرجة في سلم الأولويات غير المستعجلة. وحلها سيأخذ منحى آخر ، إذ من غير المستبعد أن يأتي على صهوة جواد المدخل الدستوري بدل المدخل السياسي الذي يطرح حساسية بالغة.
* موقف الحزب من المؤسسة العسكرية :
صرح زعماء حزب العدالة والتنمية أنهم سيلتزمون باحترام كل ثوابت الدولة التركية ، كما سيبقون على كل الاتفاقات المبرمة مع الدول الأخرى .. وكانت هذه التصريحات إشارات موجهة في أغلبها المؤسسة العسكرية ، وانضافت إلى توصيات جهات خارجية دفعت بالمؤسسة العسكرية الى التزام قدر من الحياد غير معهود منها اتجاه الوضع ،بدءا بمباركتها لنتائج الانتخابات الى ترحيبها برئيس الحكومة المقترح وما تلا ذلك من مصادقتها على أعضاء الحكومة ، فهل يعني هذا أن حالة التوتر قد انزاح ضبابها وانتفت الخلافات بين الطرفين كلية ؟.
أعتقد أن الأمر غير ذلك ، فلا يزال الجيش يتوجس خيفة من أي مبادرة تقوم بها الحكومة ، ولا يزال ماسكا بمقاليد الأمور داخل البلاد ، وما يفسر هذا هو موقفه الصريح من قضية استعمال أمريكا للتراب التركي في حربها على العراق ، إذ لم يكن يخفي عزمه على تقديم جميع وسائل الدعم للآلة الحربية الأمريكية ، وجزء من هذا الأمر قد حصل.
إن مواقف الحزب ، مهما بدا منها من ليونة معتبرة نحو المؤسسة العسكرية ، فان ذلك لن يشفع له بالمضي بعيدا ، فثمة خطوط قد رسمت من قبل ، لن يتخطاها،وان فعل ذلك ، فلن يكون مصيره أحسن من مصير حزب الرفاه .
المعادلات الخارجية
* موقف الحزب من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي :
قام زعيم حزب العدالة والتنمية بمجرد فوز حزبه في الانتخابات التشريعية 2 نونبر 2002بزيارة لمجموعة من العواصم الأوروبية ، في خطوة تحمل أكثر من دلالة سياسية مفادها أن الحزب يبدي أهمية خاصة لمسألة انضمام بلاده الى الاتحاد الأوروبي ، بل أكثر من ذلك عبر زعماء الحزب من خلال تصريحاتهم للصحافة الأجنبية في أكثر من مناسبة بأن حزبهم يضع على رأس أولوياته مسألة تأهيل بلاده للانضمام إلى لاتحاد من خلال تعزيز الديمقراطية ، و احترام حقوق الإنسان ، وسيادة القانون ، وهي من ضمن المقومات -وان لم تكن كافية لوحدها- المؤهلة للانضمام إلى الاتحاد حسب شروط هذا الأخير.
و حملت تصريحات رئيس الوزراء عبد الله غول فور تشكيل الحكومة في طبعتها الأولى إشارات تحمل نفس المضامين التي حملها خطاب رئيس الحزب آنئذ طيب أردوغان ، وكانت مناسبة انعقاد مجلس الاتحاد الأوروبي فرصة مواتية ليتم تجديد طلب الانضمام. حيث شكلت نقطة انضمام تركيا إلى الاتحاد النقطة الساخنة في جدول أعمال لقاء أعضاء الاتحاد ،و أخذت ساعات طوالا من المناقشة أفرزت في النهاية إقرار فكرة إرجاء هذا الطلب لسنة 2004م. وكانت خيبة الحكومة والشعب التركي كبيرة من هذا الموقف.
واستمرت مساعي الحزب بل ازدادت أيضا في ظل حكومة العدالة والتنمية في طبعتها الثانية برئاسة طيب أردوغان ووزير خارجيته عبد الله غول من خلال سن عدة قوانين تهم صلاحيات المؤسسة العسكرية وصلاحيات رئيس الدولة ، و قوانين تهم الحريات العامة .. كما ازدادت وثيرة دبلوماسية الحزب في إجراء اتصالات وعقد لقاءات علنية وسرية مع بعض أعضاء الاتحاد
واستنادا لكل ما سبق فيمكن اعتبار موقف حزب العدالة والتنمية حيال فكرة انضمام بلاده الى الاتحاد موقفا موفقا فيه الى حد كبير ، وتبقى نتيجة الموقف النهائي لأعضاء الاتحاد حيال فكرة انضمام تركيا هامة جدا سواء على الصعيد الاوروربي أو على الصعيد العالمي ، وقد يكون من السابق أن نعلن انه كيفما كانت النتيجة فستكون لصالح حزب العدالة والتنمية ولصالح حكومته وبلده . ويعزز هذا الأمر تصريحات أعضاء من داخل الاتحاد بحيث يؤكدون على ضرورة أن يتعامل مع قضية تركيا بإيجابية أكبر ، وان كانت ثمة بلدان تعارض هذا الرأي .
* موقف الحزب من حرب أمريكا على العراق:
تعتبر " معادلة حرب أمريكا على العراق " واحدة من أعقد المعادلات التي واجهت الحكومة التركية الحالية، وحيالها صدرت عن زعماء حزب العدالة والتنمية أثناء حملتهم الانتخابية وقبلها وبعدها تعهدات أكدوا من خلالها التزامهم الكامل بعدم الانخراط في الحرب ، وتشبتهم بالشرعية الدولية ، وبقرارات الأمم المتحدة ، إلا أن عوامل خارجية أساسا ساهمت في زعزعة هذا الموقف ، ومن أهم هذه العوامل :
* إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على ضرب العراق ، وتطبيق مخططاتها العسكرية لغزوه مهما كانت الظروف والأحوال ، دلت على ذلك حجم الحشود العسكرية في مجموعة من القواعد العسكرية الأمريكية الجاثمة فوق أراضي بعض الدول العربية ، وكذلك تصريحات الساسة الأمريكيين في اللقاءات الصحفية والتلفزيونية ، كما دلت على ذلك الضغوط المتزايدة التي مارسها الولايات المتحدة على حلفائها من أجل استصدار قرار من هيأة الأمم المتحدة يسوغ لها الهجوم على العراق.
* تصدع المواقف الأوروبية حيال الأزمة ، وانقسامها الى معسكرين : معسكر رافض للمشاركة في الحرب ، بقيادة فرنسا وألمانيا ، ومعسكر داعم للغطرسة الأمريكية الداعية لشن الحرب وتتزعمه بريطانيا، وما أفرز هذا الانقسام من تداعيات داخل الرأي العام الأوروبي وخارجه.
* تذبذب الموقف العربي حيال الأزمة ، وانهزاميته الكاملة ، وحرص الأنظمة العربية الشديد على مصالحها الاستراتيجية التي تربطتها بأمريكا ، وعجزها عن القيام بأي خطوة أو مبادرة تحفظ ماء وجهها أمام شعوبها التي ما فتئت تخرج كل يوم في مظاهرات حاشدة منددة بهذا الخذلان العربي وبانبطاحيته أمام الصلف الأمريكي .وباستثناء الموقف المحتشم الذي خرجت به القمة العربية التي جرت قبل العدوان ، لم تسجل أي مبادرة تتضمن جرأة أكبر.
تنضاف إلى هذه العوامل الخارجية عوامل داخلية تشكل حجر الأساس في ثبات مواقف الحزب، ومن بينها نذكر:
+ حجم الخسارة التي تكبدتها تركيا في حرب الخليج الثانية ، إذ قدرت بملايير الدولارات ، مما دفع الحكومة التركية إلى أن تكون أحرص على تجاوزها قدر الإمكان في الحرب الجديدة.
+ حساسية الملف الأمني لدى الساسة الأتراك ، إذ أبدوا تخوفا من أن تساهم الحرب على العراق في تقوية النزعة الانفصالية لدى الأكراد /الأتراك ، وهو ما يعيد الى الأذهان شريط المآسي وحرب العصابات التي كان يقوم بها الأكراد داخل المدن التركية قبل القاء القبض على زعيمهم عبد الله أوجلان .
+ ضغط الشارع التركي الذي رفض رفضا مطلقا انخراط بلاده في الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الشعب العراقي ، فيوميا لم تكن تخلو مدينة من مظاهرة حاشدة تندد بالعدوان وتدعو الحكومة التركية باتخاذ موقف شجاع من تلك الحرب.
+ حساسية العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية، التي تدير دفة الحكم حقيقة.
هذه جملة من الملابسات التي كان لها انعكاسها المباشر وغير المباشر على مواقف الحكومة التركية اتجاه العدوان الذي شنته أمريكا على العراق ، وكان لكل ذلك أثره -حسب كثير من المحللين - على موقف حكومة حزب العدالة والتنمية حيث شابها تردد واضح .
وكان مأتى ذلك كله وجود حالة من الحيرة والقلق الشديدين اكتنفا مواقف زعماء الحزب ، وهو ما يلخص حرصهم الشديد على الموازنة والتقديرلاتخاذ موقف مناسب يحفظ لدولتهم وشعبهم أكبر قدر من المكاسب ، ويقلل ما أمكن من حجم الخسائر، و هذا ما يفسر عملية الالتفاف التي كان قام بها زعماء الحزب لضبط خيوط المعادلة.
- كيف استطاع الحزب لالتفاف على فخ المشاركة في معادلة الحرب:
لا يساور من تتبع مواقف الحكومة التركية و تفاعلاتها اتجاه معادلة حرب أمريكا على العراق أدنى شك في الحكم بأن هذه المواقف تضمنت قدرا كبيرا من التناقض والاضطراب ، لكن من يفحص مليا هذه المواقف ويتتبع خيوطها المعقدة يخرج بحكم آخر وهو أن تفاعلات مواقف الحكومة قد أضمرت "مناورة سياسية" قام بها أصحابها من خلال عملية تبادل للأدوار غير معلنة .
ما يعزز هذا الاتجاه هو جملة المناورات التي قام بها، وتمثلت في خمس خطوات :
أولا : الجولة التي قام بها رئيس الحكومة لمجموع الدول التي تلتقي حدودها بحدود العراق من أجل صياغة موقف موحد بين هذه الدول يجنب المنطقة شبح الحرب ، وقد أثمرت هذه الجولة عقد مؤتمر إقليمي شدد في بيانه على التزام الدول الموقعة عليه بخيار رفض قرار الحرب المعلن من جانب واحد من الولايات المتحدة وبريطانيا ضد العراق ، كما أكدوا تشبثهم بقرارات الأمم المتحدة وما تتخذه من موقف في معالجتها للمشكلة ، وأخيرا دعوتهم الصريحة إلى ضرورة تعامل العراق مع المتفتشين الدوليين ، ففي ذلك ما يجنب الحرب عليه.
ثانيا : تحرك الديبلوماسية التركية ودعوتها لتفعيل المادة الرابعة من قانون حلف الناتو، والتي تقضي بتوفير الحماية العسكرية لأي دولة منخرطة في الحلف ، وتركيا اذ هي منخرطة في الحلف في أمس الحاجة لهذه الحماية خاصة مع رغبة أمريكا الحاجمحة لاستغلال ترابها في توجيه هجمات على العراق ، وما قد يسببه هذا الامر من انعاكاسات سلبية على الأراضي التركية سواء من العراق أو من غيره.
لقد أحدث قرار تفعيل هذه المادة نقاشا حادا بين دول الحلف قبل أن يستقر قرارهم على أمر إرسال بعضا من أنواع العتاد العسكري يكون رهن إشارة الجيش التركي في حالة أي عدوان على تركيا قد يشنها الجيش العراقي ، وقد فسر البعض بأن إرسال حلف الناتو لهذا العتاد دعما غير مباشر منه لحرب أمريكا على العراق . وهذا ما زاد من رفع الحرج الكبير على الحكومة التركية فلم تكن بلادها لوحدها داعمة لهذه الحرب .
ثالثا : "المساومة" على فاتورة استعمال أمريكا للتراب التركي في حربها على العراق ، فكما ذكرت سلفا فقد خرجت تركيا من حرب الخليج الثانية بخسارة كبيرة قدرت بمليارات من الدولارات ، لكنها هذه المرة وكأنها أرادت أن تضمن أداء مسبقا لهذه الفاتورة . وتركت هذه الخطوة إحراجا كبيرا للقرار الأمريكي .
كما خلفت هذه العملية انطباعا سيئا لدى الشارع التركي الداخلي وخارج تركيا، كما أحدثت اضطرابا في الجبهة الداخلية للحزب ، إذ تعالت أصوات رافضة لذلك، بل رافضة حتى قرار استعمال القواعد العسكرية تحت أي حجة كانت ، ولتجاوز هذا العائق لجأت الدبلوماسية التركية إلى استعمال الخطوة الرابعة.
رابع : إرسال الحكومة مذكرة للبرلمان تدعوه للتصويت على قرار استعمال التراب التركي ، وقد كان رئيس البرلمان أول معارض لها . وتابعه في ذلك أغلبية النواب ، وترك موقف البرلمان الرافض لمساعدة أمريكا في حربها على العراق ارتياحا جيدا داخليا وخارجيا.
خامسا: قبول الحكومة التركية – وبعد ضغط شديد – الترخيص للجيش الأمريكي لاستعمال الأجواء التركية ، وقد وجد هذا الأمر معارضة من داخل البرلمان والحكومة التركية .
وبدأت الحرب ، وانتهت إلى ما انتهت إليه ، وكانت تركيا بزعامة حزب العدالة والتنمية أكبر رابح في هذه المعركة داخليا وخارجيا . وما تزال لحد الآن مستفيدة من هذه النتيجة .
سمات وخصائص طبعت مواقف حزب العدالة والتنمية:
بتتبعنا لمواقف الحزب حيال المعادلات السالفة ، وبخاصة معادلة الحرب على العراق، نستطيع القول بأن مواقف الحزب تأرجحت بين موقف المواجهة المباشرة والصريحة ، وبين المداراة والمناورة ، وأخيرا بين التردد والإحجام .وعلى هذا نستخلص أن موقف أو مواقف الحزب طبعتها سمات أو خصائص أربعة :
1- المواجهة الصريحة
2- المداراة والالتفافية
3- الإحجام والإقبال
4- المناورة
ولعل أهم وأبرز هذه السمات هي المناورة التي أطرت باقي السمات الأخرى، لكن ينبغي عدم إغفال أنه انطلاقا من هذا الأسلوب المطبوع بالسمات والخصائص السالفة من السابق لأوانه الحكم على مدى نجاح الديبلوماسية التركية في تخطي المعادلات جميعها بنجاح .
لقد استطاعت الحكومة أن تدير الدفة بمرونة سياسية معتبرة، كسبت من بعضها نتائج هامة ، لكن محاولاتها لا تزال مستمرة لكسب نتائج أخرى من المعادلات المتبقية .
إن مقاربتنا لما يجري على الساحة التركية لا ينسينا حساسية الموقف وتعقد الوضع الذي قدر للتجربة السياسية الجديدة بزعامة حزب العدالة والتنمية أن تقع فيه ، وكذلك حدة المعادلات التي وضعت على طاولتها وحجم الاكراهات الداخلية والخارجية . و ثمة أسئلة تفرض نفسها وهي مرتبطة بدور الاكراهات التي تصيب عملية التغيير من خلال اللعبة الديمقراطية ، أما السؤال الأول فهو : إلى أي مدى يمكن اعتبار اللعبة الديمقراطية مدخلا يعول عليه في عملية التغيير والإصلاح السياسي في ظل الاكراهات الدولية ؟ والسؤال الثاني هو : هل الأمر يتعلق فقط بمزيد من الفهم والاستيعاب لعراقيل وحدود هذه الاكراهات ، أم الأمر يتجاوز ذلك الى البحث عن خيارات أكثر قدرة على الصمود أمام شدة هذه الاكراهات ؟
نحن اليوم ومن خلال التجربة التركية الحالية ، أمام حكومة تملك أغليية معتبرة ، لطالما حلمت بها الحركات التغييرية والإصلاحية لأجل إنجاز برامجها السياسية والاجتماعية .. لكن بعد شهور على بداية التجربة بدا يظهر للمتتبعين أن امتلاك الأغلبية البرلمانية غير كاف لإنجاز البرامج التي وعدت بها هذه الحركات.
وهذا يدفعنا إلى التأكيد على محدودية الممارسة السياسية في كثير من دول عالمنا العربي الإسلامي ، والحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى للبحث جديا والسعي حثيثا نحو توسيع هامش هذه الممارسة بالشروط الديمقراطية أولا، ثم استتباع ذلك بفتح المجال واسعا أمام باقي المداخل الأخرى ثانيا بما فيها المدخل الثقافي والفكري
للتواصل : علاء سليمان Yousef2010-aa@yahoo.com
التجربة السياسية ذات التوجه الإسلامي بتركيا قدم السبق على مجموعة من التجارب الإسلامية أحرزت في مختلف أقطار عالمنا الإسلامي ، ومرجع ذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بقدم التجربة وحنكتها في إدارة الصراع مع خصومها ، ومنها ما يتعلق بطبيعة الديموقراطية داخل مجتمعها،ومهما يكن من أهمية لهذه العوامل مجتمعة ولغيرها ، فيبقى ثمة عامل آخر هام جدا تمرست عليه التجربة السياسية بدءا من أول حزب وهو حزب النظام الوطني ضمن التوجه القديم إلى تجربة حزب العدالة والتنمية ، ويتعلق الأمر بمستوى إتقان التجربة السياسية للعبة المناورة السياسية مع خصومها سواء بداخل تركيا أو خارجها .
وهذا العامل قلما يتم استيعابه من طرف البعض فتخالهم لا يتوانون في إطلاق بعض الأحكام اتجاه أي تصرف من زعيم من زعماء هذه التجربة السياسية. ولعلنا نكتشف قدرا معتبرا من هذا العامل في تجربة حزب العدالة والتنمية الحالي ، وأهم محددات موقفه حيال مجموعة من القضايا والمعادلات الداخلية والخارجية التي واجهته.
وقبل أن نعرض لهذه المعادلات لا بأس أن نرهف السمع لأصوات عديدة من داخل التيار الإسلامي سواء داخل تركيا أو خارجها حيث اعتبرت هذه الأصوات أن ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية من أغلبية أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية لا يعد " انتصارا " أو هو "انتصار" نسبي في نظرها ، مبررهم هو كون ثمن هذا الانتصار كان كبيرا جدا ، فمقابله "تنازل" زعماء التجربة الجديدة عن أفكار ظلت تحكم ردحا من الزمن مواقفهم من مجموعة من القضايا والملفات،من ذلك قضية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، و قضية الحجاب ، و الأزمة الاقتصادية التي ظلت البلاد تتخبط فيها ، والاستدانة من بعض المؤسسات المالية الدولية ..لكن أخطر قضية تردده في قضية حرب أمريكا على العراق.
طرحت على طاولة الحكومة التركية الجديدة بقيادة حزب العدالة والتنمية معادلات معقدة بمجرد تسلمه مقاليد الحكومة ، فرضت عليه ضرورة النظر في حل تعقيداتها المتشابكة .و يجدر أن نذكر في هذا الصدد أن إرهاصات وجود كثير من هذه المعادلات - وأبرزها معادلة حرب أمريكا على العراق- كانت مطروحة منذ مدة على مسرح الحياة التركية ، واختلفت طريقة تعامل كل حزب معها سواء قبل حملة الانتخابات النيابية ،أو أثناءها أو بعدها.
المعادلات الداخلية :
* موقف الحزب من الأزمة الاقتصادية:
تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكومة في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة ظلت تركيا تعيش في حمأتها منذ عقود ، وأدت الى إقفال وإفلاس عدد لا يقدر من الشركات والمصانع ، وتسببت في حصول تضخم كبير، و انخفضت العملة التركية الى أدنى مستوى لها . أثناء الحملة الانتخابية وقبلها قال زعماء حزب العدالة والتنمية بأن أهم ما سيولونه العناية الأولى هي حل هذه الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد ، ولم يخف زعماء الحزب رغبتهم في التعاون مع صندوق النقد الدولي في سبيل التغلب عليها .
إلا أن شدة الأزمة الاقتصادية وعمقها كان أكبر من قيام الحزب برتوشات إصلاحية ، إلا أنه وبعد انتهاء حرب أمريكا على العراق ،بدأت بوادر انفراج اقتصادي تلوح على الاقتصاد التركي ، قد يكون مؤشرا على بداية خروجه من الأزمة.
* موقف الحزب من قضية منع الحجاب :
تعتبر مشكلة الحجاب واحدة من القضايا الساخنة المطروحة على الساحة التركية منذ حوالي عشرين سنة ، ومع هذا لم تصل حتى هذه اللحظة إلى حل نهائي. وقد تفاقمت هذه المشكلة خلال تجربة حزب الرفاه في حكومة 1997 م ، حيث فرضت عليه المؤسسة العسكرية أن ينصاع لمجموعة من الشروط منها منع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات ، وقد أسقطت هذه الحكومة كما هو معروف على اثر الانقلاب الأبيض الذي قام بها الجيش ، بعدما لم تف بالتزامها .
يعتبر الجيش نفسه الجهة الوحيدة المسؤولة عن الحفاظ على مبادئ أتاتورك وعلى أفكاره العلمانية واللادينية ، ومن هنا فهو يرى أن مجموعة من المظاهر الإسلامية ومنها ارتداء الحجاب داخل المؤسسات التعليمية والجامعية وحتى داخل وزارات الدولة تشكل مساسا "بالمبادئ الكمالية"، ولذلك وجبت محاربتها بلا هوادة .
وكثير من المتتبعين لقضية الحجاب في تركيا يؤكدون أن هذه المشكلة لا تقتصر على فئة محدودة من المجتمع بل تشغل أكثر من 80% من نساء تركيا. وفي خطاب لطيب رجب أردوغان يوم التاسع والعشرين شهر أكتوبر 2002 ، وأمام حشود من أنصار الحزب تجمهرت أمام مقره ذكر أردوغان أنه يوم الرابع من شهر نونبر 2002 ، أي بعد يوم واحد من إعلان نتائج الانتخابات سوف لن يكون هناك شيء اسمه إلقاء القبض على أولياء الأمور، أو وضع الحديد في أيدي الشباب المعارض لمنع المحجبات من التعليم ، و ذكر أيضا: أن حزبه سيرفع كل العوائق الموضوعة أمام حرية التعبير.
بعدمامرت الانتخابات أكد زعماء حزب العدالة والتنمية في تصريحاتهم المتكررة أن هذه القضية أو هذه المعادلة لا تشكل بالنسبة إليهم أولوية في الوقت الراهن ، ولدا فهي مدرجة في سلم الأولويات غير المستعجلة. وحلها سيأخذ منحى آخر ، إذ من غير المستبعد أن يأتي على صهوة جواد المدخل الدستوري بدل المدخل السياسي الذي يطرح حساسية بالغة.
* موقف الحزب من المؤسسة العسكرية :
صرح زعماء حزب العدالة والتنمية أنهم سيلتزمون باحترام كل ثوابت الدولة التركية ، كما سيبقون على كل الاتفاقات المبرمة مع الدول الأخرى .. وكانت هذه التصريحات إشارات موجهة في أغلبها المؤسسة العسكرية ، وانضافت إلى توصيات جهات خارجية دفعت بالمؤسسة العسكرية الى التزام قدر من الحياد غير معهود منها اتجاه الوضع ،بدءا بمباركتها لنتائج الانتخابات الى ترحيبها برئيس الحكومة المقترح وما تلا ذلك من مصادقتها على أعضاء الحكومة ، فهل يعني هذا أن حالة التوتر قد انزاح ضبابها وانتفت الخلافات بين الطرفين كلية ؟.
أعتقد أن الأمر غير ذلك ، فلا يزال الجيش يتوجس خيفة من أي مبادرة تقوم بها الحكومة ، ولا يزال ماسكا بمقاليد الأمور داخل البلاد ، وما يفسر هذا هو موقفه الصريح من قضية استعمال أمريكا للتراب التركي في حربها على العراق ، إذ لم يكن يخفي عزمه على تقديم جميع وسائل الدعم للآلة الحربية الأمريكية ، وجزء من هذا الأمر قد حصل.
إن مواقف الحزب ، مهما بدا منها من ليونة معتبرة نحو المؤسسة العسكرية ، فان ذلك لن يشفع له بالمضي بعيدا ، فثمة خطوط قد رسمت من قبل ، لن يتخطاها،وان فعل ذلك ، فلن يكون مصيره أحسن من مصير حزب الرفاه .
المعادلات الخارجية
* موقف الحزب من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي :
قام زعيم حزب العدالة والتنمية بمجرد فوز حزبه في الانتخابات التشريعية 2 نونبر 2002بزيارة لمجموعة من العواصم الأوروبية ، في خطوة تحمل أكثر من دلالة سياسية مفادها أن الحزب يبدي أهمية خاصة لمسألة انضمام بلاده الى الاتحاد الأوروبي ، بل أكثر من ذلك عبر زعماء الحزب من خلال تصريحاتهم للصحافة الأجنبية في أكثر من مناسبة بأن حزبهم يضع على رأس أولوياته مسألة تأهيل بلاده للانضمام إلى لاتحاد من خلال تعزيز الديمقراطية ، و احترام حقوق الإنسان ، وسيادة القانون ، وهي من ضمن المقومات -وان لم تكن كافية لوحدها- المؤهلة للانضمام إلى الاتحاد حسب شروط هذا الأخير.
و حملت تصريحات رئيس الوزراء عبد الله غول فور تشكيل الحكومة في طبعتها الأولى إشارات تحمل نفس المضامين التي حملها خطاب رئيس الحزب آنئذ طيب أردوغان ، وكانت مناسبة انعقاد مجلس الاتحاد الأوروبي فرصة مواتية ليتم تجديد طلب الانضمام. حيث شكلت نقطة انضمام تركيا إلى الاتحاد النقطة الساخنة في جدول أعمال لقاء أعضاء الاتحاد ،و أخذت ساعات طوالا من المناقشة أفرزت في النهاية إقرار فكرة إرجاء هذا الطلب لسنة 2004م. وكانت خيبة الحكومة والشعب التركي كبيرة من هذا الموقف.
واستمرت مساعي الحزب بل ازدادت أيضا في ظل حكومة العدالة والتنمية في طبعتها الثانية برئاسة طيب أردوغان ووزير خارجيته عبد الله غول من خلال سن عدة قوانين تهم صلاحيات المؤسسة العسكرية وصلاحيات رئيس الدولة ، و قوانين تهم الحريات العامة .. كما ازدادت وثيرة دبلوماسية الحزب في إجراء اتصالات وعقد لقاءات علنية وسرية مع بعض أعضاء الاتحاد
واستنادا لكل ما سبق فيمكن اعتبار موقف حزب العدالة والتنمية حيال فكرة انضمام بلاده الى الاتحاد موقفا موفقا فيه الى حد كبير ، وتبقى نتيجة الموقف النهائي لأعضاء الاتحاد حيال فكرة انضمام تركيا هامة جدا سواء على الصعيد الاوروربي أو على الصعيد العالمي ، وقد يكون من السابق أن نعلن انه كيفما كانت النتيجة فستكون لصالح حزب العدالة والتنمية ولصالح حكومته وبلده . ويعزز هذا الأمر تصريحات أعضاء من داخل الاتحاد بحيث يؤكدون على ضرورة أن يتعامل مع قضية تركيا بإيجابية أكبر ، وان كانت ثمة بلدان تعارض هذا الرأي .
* موقف الحزب من حرب أمريكا على العراق:
تعتبر " معادلة حرب أمريكا على العراق " واحدة من أعقد المعادلات التي واجهت الحكومة التركية الحالية، وحيالها صدرت عن زعماء حزب العدالة والتنمية أثناء حملتهم الانتخابية وقبلها وبعدها تعهدات أكدوا من خلالها التزامهم الكامل بعدم الانخراط في الحرب ، وتشبتهم بالشرعية الدولية ، وبقرارات الأمم المتحدة ، إلا أن عوامل خارجية أساسا ساهمت في زعزعة هذا الموقف ، ومن أهم هذه العوامل :
* إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على ضرب العراق ، وتطبيق مخططاتها العسكرية لغزوه مهما كانت الظروف والأحوال ، دلت على ذلك حجم الحشود العسكرية في مجموعة من القواعد العسكرية الأمريكية الجاثمة فوق أراضي بعض الدول العربية ، وكذلك تصريحات الساسة الأمريكيين في اللقاءات الصحفية والتلفزيونية ، كما دلت على ذلك الضغوط المتزايدة التي مارسها الولايات المتحدة على حلفائها من أجل استصدار قرار من هيأة الأمم المتحدة يسوغ لها الهجوم على العراق.
* تصدع المواقف الأوروبية حيال الأزمة ، وانقسامها الى معسكرين : معسكر رافض للمشاركة في الحرب ، بقيادة فرنسا وألمانيا ، ومعسكر داعم للغطرسة الأمريكية الداعية لشن الحرب وتتزعمه بريطانيا، وما أفرز هذا الانقسام من تداعيات داخل الرأي العام الأوروبي وخارجه.
* تذبذب الموقف العربي حيال الأزمة ، وانهزاميته الكاملة ، وحرص الأنظمة العربية الشديد على مصالحها الاستراتيجية التي تربطتها بأمريكا ، وعجزها عن القيام بأي خطوة أو مبادرة تحفظ ماء وجهها أمام شعوبها التي ما فتئت تخرج كل يوم في مظاهرات حاشدة منددة بهذا الخذلان العربي وبانبطاحيته أمام الصلف الأمريكي .وباستثناء الموقف المحتشم الذي خرجت به القمة العربية التي جرت قبل العدوان ، لم تسجل أي مبادرة تتضمن جرأة أكبر.
تنضاف إلى هذه العوامل الخارجية عوامل داخلية تشكل حجر الأساس في ثبات مواقف الحزب، ومن بينها نذكر:
+ حجم الخسارة التي تكبدتها تركيا في حرب الخليج الثانية ، إذ قدرت بملايير الدولارات ، مما دفع الحكومة التركية إلى أن تكون أحرص على تجاوزها قدر الإمكان في الحرب الجديدة.
+ حساسية الملف الأمني لدى الساسة الأتراك ، إذ أبدوا تخوفا من أن تساهم الحرب على العراق في تقوية النزعة الانفصالية لدى الأكراد /الأتراك ، وهو ما يعيد الى الأذهان شريط المآسي وحرب العصابات التي كان يقوم بها الأكراد داخل المدن التركية قبل القاء القبض على زعيمهم عبد الله أوجلان .
+ ضغط الشارع التركي الذي رفض رفضا مطلقا انخراط بلاده في الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الشعب العراقي ، فيوميا لم تكن تخلو مدينة من مظاهرة حاشدة تندد بالعدوان وتدعو الحكومة التركية باتخاذ موقف شجاع من تلك الحرب.
+ حساسية العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية، التي تدير دفة الحكم حقيقة.
هذه جملة من الملابسات التي كان لها انعكاسها المباشر وغير المباشر على مواقف الحكومة التركية اتجاه العدوان الذي شنته أمريكا على العراق ، وكان لكل ذلك أثره -حسب كثير من المحللين - على موقف حكومة حزب العدالة والتنمية حيث شابها تردد واضح .
وكان مأتى ذلك كله وجود حالة من الحيرة والقلق الشديدين اكتنفا مواقف زعماء الحزب ، وهو ما يلخص حرصهم الشديد على الموازنة والتقديرلاتخاذ موقف مناسب يحفظ لدولتهم وشعبهم أكبر قدر من المكاسب ، ويقلل ما أمكن من حجم الخسائر، و هذا ما يفسر عملية الالتفاف التي كان قام بها زعماء الحزب لضبط خيوط المعادلة.
- كيف استطاع الحزب لالتفاف على فخ المشاركة في معادلة الحرب:
لا يساور من تتبع مواقف الحكومة التركية و تفاعلاتها اتجاه معادلة حرب أمريكا على العراق أدنى شك في الحكم بأن هذه المواقف تضمنت قدرا كبيرا من التناقض والاضطراب ، لكن من يفحص مليا هذه المواقف ويتتبع خيوطها المعقدة يخرج بحكم آخر وهو أن تفاعلات مواقف الحكومة قد أضمرت "مناورة سياسية" قام بها أصحابها من خلال عملية تبادل للأدوار غير معلنة .
ما يعزز هذا الاتجاه هو جملة المناورات التي قام بها، وتمثلت في خمس خطوات :
أولا : الجولة التي قام بها رئيس الحكومة لمجموع الدول التي تلتقي حدودها بحدود العراق من أجل صياغة موقف موحد بين هذه الدول يجنب المنطقة شبح الحرب ، وقد أثمرت هذه الجولة عقد مؤتمر إقليمي شدد في بيانه على التزام الدول الموقعة عليه بخيار رفض قرار الحرب المعلن من جانب واحد من الولايات المتحدة وبريطانيا ضد العراق ، كما أكدوا تشبثهم بقرارات الأمم المتحدة وما تتخذه من موقف في معالجتها للمشكلة ، وأخيرا دعوتهم الصريحة إلى ضرورة تعامل العراق مع المتفتشين الدوليين ، ففي ذلك ما يجنب الحرب عليه.
ثانيا : تحرك الديبلوماسية التركية ودعوتها لتفعيل المادة الرابعة من قانون حلف الناتو، والتي تقضي بتوفير الحماية العسكرية لأي دولة منخرطة في الحلف ، وتركيا اذ هي منخرطة في الحلف في أمس الحاجة لهذه الحماية خاصة مع رغبة أمريكا الحاجمحة لاستغلال ترابها في توجيه هجمات على العراق ، وما قد يسببه هذا الامر من انعاكاسات سلبية على الأراضي التركية سواء من العراق أو من غيره.
لقد أحدث قرار تفعيل هذه المادة نقاشا حادا بين دول الحلف قبل أن يستقر قرارهم على أمر إرسال بعضا من أنواع العتاد العسكري يكون رهن إشارة الجيش التركي في حالة أي عدوان على تركيا قد يشنها الجيش العراقي ، وقد فسر البعض بأن إرسال حلف الناتو لهذا العتاد دعما غير مباشر منه لحرب أمريكا على العراق . وهذا ما زاد من رفع الحرج الكبير على الحكومة التركية فلم تكن بلادها لوحدها داعمة لهذه الحرب .
ثالثا : "المساومة" على فاتورة استعمال أمريكا للتراب التركي في حربها على العراق ، فكما ذكرت سلفا فقد خرجت تركيا من حرب الخليج الثانية بخسارة كبيرة قدرت بمليارات من الدولارات ، لكنها هذه المرة وكأنها أرادت أن تضمن أداء مسبقا لهذه الفاتورة . وتركت هذه الخطوة إحراجا كبيرا للقرار الأمريكي .
كما خلفت هذه العملية انطباعا سيئا لدى الشارع التركي الداخلي وخارج تركيا، كما أحدثت اضطرابا في الجبهة الداخلية للحزب ، إذ تعالت أصوات رافضة لذلك، بل رافضة حتى قرار استعمال القواعد العسكرية تحت أي حجة كانت ، ولتجاوز هذا العائق لجأت الدبلوماسية التركية إلى استعمال الخطوة الرابعة.
رابع : إرسال الحكومة مذكرة للبرلمان تدعوه للتصويت على قرار استعمال التراب التركي ، وقد كان رئيس البرلمان أول معارض لها . وتابعه في ذلك أغلبية النواب ، وترك موقف البرلمان الرافض لمساعدة أمريكا في حربها على العراق ارتياحا جيدا داخليا وخارجيا.
خامسا: قبول الحكومة التركية – وبعد ضغط شديد – الترخيص للجيش الأمريكي لاستعمال الأجواء التركية ، وقد وجد هذا الأمر معارضة من داخل البرلمان والحكومة التركية .
وبدأت الحرب ، وانتهت إلى ما انتهت إليه ، وكانت تركيا بزعامة حزب العدالة والتنمية أكبر رابح في هذه المعركة داخليا وخارجيا . وما تزال لحد الآن مستفيدة من هذه النتيجة .
سمات وخصائص طبعت مواقف حزب العدالة والتنمية:
بتتبعنا لمواقف الحزب حيال المعادلات السالفة ، وبخاصة معادلة الحرب على العراق، نستطيع القول بأن مواقف الحزب تأرجحت بين موقف المواجهة المباشرة والصريحة ، وبين المداراة والمناورة ، وأخيرا بين التردد والإحجام .وعلى هذا نستخلص أن موقف أو مواقف الحزب طبعتها سمات أو خصائص أربعة :
1- المواجهة الصريحة
2- المداراة والالتفافية
3- الإحجام والإقبال
4- المناورة
ولعل أهم وأبرز هذه السمات هي المناورة التي أطرت باقي السمات الأخرى، لكن ينبغي عدم إغفال أنه انطلاقا من هذا الأسلوب المطبوع بالسمات والخصائص السالفة من السابق لأوانه الحكم على مدى نجاح الديبلوماسية التركية في تخطي المعادلات جميعها بنجاح .
لقد استطاعت الحكومة أن تدير الدفة بمرونة سياسية معتبرة، كسبت من بعضها نتائج هامة ، لكن محاولاتها لا تزال مستمرة لكسب نتائج أخرى من المعادلات المتبقية .
إن مقاربتنا لما يجري على الساحة التركية لا ينسينا حساسية الموقف وتعقد الوضع الذي قدر للتجربة السياسية الجديدة بزعامة حزب العدالة والتنمية أن تقع فيه ، وكذلك حدة المعادلات التي وضعت على طاولتها وحجم الاكراهات الداخلية والخارجية . و ثمة أسئلة تفرض نفسها وهي مرتبطة بدور الاكراهات التي تصيب عملية التغيير من خلال اللعبة الديمقراطية ، أما السؤال الأول فهو : إلى أي مدى يمكن اعتبار اللعبة الديمقراطية مدخلا يعول عليه في عملية التغيير والإصلاح السياسي في ظل الاكراهات الدولية ؟ والسؤال الثاني هو : هل الأمر يتعلق فقط بمزيد من الفهم والاستيعاب لعراقيل وحدود هذه الاكراهات ، أم الأمر يتجاوز ذلك الى البحث عن خيارات أكثر قدرة على الصمود أمام شدة هذه الاكراهات ؟
نحن اليوم ومن خلال التجربة التركية الحالية ، أمام حكومة تملك أغليية معتبرة ، لطالما حلمت بها الحركات التغييرية والإصلاحية لأجل إنجاز برامجها السياسية والاجتماعية .. لكن بعد شهور على بداية التجربة بدا يظهر للمتتبعين أن امتلاك الأغلبية البرلمانية غير كاف لإنجاز البرامج التي وعدت بها هذه الحركات.
وهذا يدفعنا إلى التأكيد على محدودية الممارسة السياسية في كثير من دول عالمنا العربي الإسلامي ، والحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى للبحث جديا والسعي حثيثا نحو توسيع هامش هذه الممارسة بالشروط الديمقراطية أولا، ثم استتباع ذلك بفتح المجال واسعا أمام باقي المداخل الأخرى ثانيا بما فيها المدخل الثقافي والفكري
للتواصل : علاء سليمان Yousef2010-aa@yahoo.com